زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها والفضائل المباشرة للسيدة عائشة رضي الله عنها
لَمَّا تُوفِّيَتْ خَدِيجَةُ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَلَا تَزَوَّجُ؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا, وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا. قَالَ: فَمَنْ الْبِكْرُ؟ قَالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْكَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: وَمَنْ الثَّيِّبُ؟ قَالَتْ: سَوْدَةُ ابْنَةُ زَمْعَةَ, قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا تَقُولُ. قَالَ: فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ؛ فخطبها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة، وهي بنت ست سنين في شوال سنة عشرة من النبوة قبل الهجرةِ بثلاث سنين, ودخل بها وهي بنت تسع في المدينة في شوال بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة, من غير اعتبار الكبر, ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، ولم يتزوج بكراً غيرها.
وفى زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة تقول رضى اللَّه عنها: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ", وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخطب عائشة حتى جاءته خولة زوج صاحبه عثمان بن مظعون ترشحها له.
يومُ زفافها رضي الله عنها
بعد أن نزل آل أبي بكر فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فِي السُّنْحِ, قَالَتْ عائشةُ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَنَا, وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَنِسَاءٌ؛ فَجَاءَتْنِي أُمِّي وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ بَيْنَ عَذْقَيْنِ تَرْجَحُ بِي؛ فَأَنْزَلَتْنِي مِنْ الْأُرْجُوحَةِ وَلِي جُمَيْمَةٌ فَفَرَقَتْهَا وَمَسَحَتْ وَجْهِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ, ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَقُودُنِي حَتَّى وَقَفَتْ بِي عِنْدَ الْبَابِ, وَإِنِّي لَأَنْهَجُ[12] حَتَّى سَكَنَ مِنْ نَفْسِي, ثُمَّ دَخَلَتْ بِي؛ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتِنَا وَعِنْدَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ فَأَجْلَسَتْنِي فِي حِجْرِهِ, ثُمَّ قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُكِ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكِ فِيهِمْ وَبَارَكَ لَهُمْ فِيكِ, فَوَثَبَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَخَرَجُوا, وَبَنَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا, مَا نُحِرَتْ عَلَيَّ جَزُورٌ, وَلَا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِجَفْنَةٍ كَانَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَارَ إِلَى نِسَائِهِ", وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ.
وكان بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي دخلت فيه أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها حجرة واحدة من الطوب اللَّبِن النَّيِّئ والطين, ملحق بها حجرة من جريد مستورة بالطين، وكان باب حجرة السيدة عائشة مواجهًا للشام، وكان بمصراع واحد من خشب، سقفه منخفض وأثاثه بسيط: سرير من خشبات مشدودة بحبال من ليف عليه, ووسادة من جلد حَشْوُها ليف، وقربة للماء، وآنية من فخارٍ للطعام والوضوء.
وأقامت في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أعوام وخمسة أشهر, وَتُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً, ورأسُه فى حجرها, ودفن فى بيتها.
فضائلها وأخلاقها
الفضائل المباشرة للسيدة عائشة رضي الله عنها
الأولى: أَنَّهَا خُيِّرَتْ وَاخْتَارَتِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ عَلَى الْفَوْر,وذلك لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ؛ فبَدَأَ بِعائشة؛ فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ. قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ. قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا, وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا". قَالَتْ فَقُلْتُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ, فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ, وَفِيهِ فَضْلُ عَائِشَة لِبُدَاءَتِهِ بِهَا, وَفِيهِ مَنْقَبَة عَظِيمَة لِعَائِشَةَ وَبَيَان كَمَال عَقْلهَا وَصِحَّة رَأْيهَا مَعَ صِغَر سِنّهَا, وَفِيهِ الْمُبَادَرَة إِلَى الْخَيْر وَإِيثَار أُمُور الْآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا.
وفيه أَنَّهَا حَيْثُ خُيِّرَتْ كَانَ خِيَارُهَا عَلَى التَّرَاخِيْ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الخِلَافُ فِي باقي نسائه صلى الله عليه وسلم, هَلْ كَانَ مَشْرُوْطًا بِالْفَوْرِ أَمْ لَا؟ وَسَبَبُهُ - وَ اللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا كَانَتْ أَحَدثَ نِسَائِهِ سِنًّا, وَأَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ؛ فَكَأنَ قَوْلهُ لَهَا: لَا تُبَادِرِيْنِيْ بِالْجَوَابِ, خَوْفًا مِنْ أَنْ تَبْتَدِرَهُ بِاخْتِيَارِ الدُّنْيَا. والفرق واضح بين قول الوَاحِدُ مِنَّا لِبَعْضِ نِسَائِهِ: اخْتَارِيْ مَتَى شِئْتِ", وَقوله لِأُخْرَى: "اخْتَارِيْ "؛ فَإِنَّ خِيَارَ الْأُوْلَى يَكُوْنُ عَلَى التَّرَاخِيْ وَالْأُخْرَى عَلَى الْفَوْرِ.
الثانية: نُزُوْلُ آَيَةِ التَّيَمُّمِ بِسَبَبِ عِقَدْهَا حِيْنَ حَبَسَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ؛ فمن جميل ما أسدته السيدة عائشة للمسلمين أنها كانت سببًا في نزول آية التيمم، تقول رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ, حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي؛ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ, وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ؛ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ, فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ؛ فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ, وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ, وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ, وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي, فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا؛ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. وفى رواية قال لها:جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا, فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا, وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَة.
الْثَالِثَةُ: نُزُوْلُ بَرَاءَتِهَا مِنَ السَّمَاءِ مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهَا أَهْل الْإِفْك فِي سِتِّ عَشْرَةَ آَيَةً مُتَوَالِيَةٍ[, وَشَهِدَ اللهُ لَهَا بأَنَّهَا مِنَ الطَّيِّباتِ, وَوَعَدَهَا بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَرِيْمِ, وَانْظُرْ تَوَاضُعَهَا فِي قَوْلهَا: "وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى, وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا".
وفيه منقبة ظاهرة جلية أنّ الله شهد لها بالعفة والطهارة, يَقُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآَيَات - مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ مِنْهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِلَّا مَنْ خَاضَ فِي إِفْكِ عَائِشَةَ, ثُمَّ قَالَ: بَرَّأَ اللهُ تَعَالَى أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةٍ: يُوْسُفَ بلِسَانِ الشَّاهِدِ: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلهَا", وَبَرَّأَ مُوْسَى مِنْ قَوْل الْيَهُوْدِ فِيْهِ بِالْحَجَرِ الَّذِيْ ذَهَبَ بِثَوْبِهِ, وَبَرَّأَ مَرْيَم بِإِنْطَاقِ وَلَدِهَا: "إِنِّيْ عَبْدُ اللهِ", وَبَرَّأَ عَائِشَةَ بِهَذِهِ الْآَيَاتِ الْعَظِيْمةِ,ولهذا سَمَا ذكرُها وعلا شأنها؛ لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها - بنت اثنتي عشرة سنة - فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم.
ا ولذلك اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رضي الله عنها, فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِحَقِّهَا , وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ, وَلأنه أنكر شيئاً تواتر في الكتاب وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, يقول الزِّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ فَلَّيْتَ الْقْرْآنَ وَفَتَّشْتَ عَمَّا أَوْعَدَ بِهِ الْعُصَاةَ لَمْ تَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَلَّظَ فِي شَيْءٍ تَغْلِيْظَهُ فِي إِفْكِ عَائِشَةَ, وقال القاضي أبو يعلى: "من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف", وَقَدْ حَكَى الإْجْمَاعَ عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأْئِمَّةِ.
وفيه منقبةٌ أخرى, وهي أنّ الله تعالى جَعَلَ براءتها قُرْأَناً يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة, وشَرَعَ جَلْدَ الْقَاذِفِ, وَصَارَ بَابُ الْقَذْفِ وَحْدَهُ بَابًا عَظِيْمًا مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيْعَةِ, وَكَانَ سَبَبُهُ قِصَّتُهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُا, ويؤيّدُ هذا المعنى قوله تعالى: "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْر", وقال عروة ابن الزبير: "ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلا وعلو مجد؛ فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة".
ا لرابعة: أَنَّ جِبْرِيْلَ أَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيْر, لِقَولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ, جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ, فَإِذَا أَنْتِ هِيَ؛ فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ", وهي منقبة كانت عائشة تفتخر وتعتز بها؛ ذلك أَنَّ اللهَ تَعَالَى اخْتَارَهَا لِرَسُوْلِه, وحُقّ لعائشة أن تفتخر؛ فهل بعد هذا في الفضل غاية.
الخامسة: أَنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ, وشهد لذلك النبي صلى الله عليه وسلم, ودلَّ على ذلك ما رواه عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ". قُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: "أَبُوهَا"؛فهذا الحديث شاهدٌ على هذه المنقبة الجليلة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وهي أنها كانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه, ثمَّ ما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيبا؛ فهي من الطَّيباتِ النقيّات.
وشهد لهذا الحبّ ولهذه الكرامة كبار الصحابة, يقولُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِرَجُل نَالَ مِنْهَا: أَغْرِبْ مَقْبُوحًا مَنْبُوحًا أَتُؤْذِيْ حَبِيْبَةَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ذلك أنّ حبَّه صلى الله عليه وسلم لعائشة كان أمراً مستفيضاً, حتى صار الناس يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته.
وأكثر من ذلك وُجُوْب مَحَبَّتِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ ذلك أنّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرسَلنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ, فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ؛ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ"؛ فَقَالَتْ: بَلَى. قَالَ: "فَأَحِبِّي هَذِهِ"[54], وَهَذَا الْأَمْر ظَاهِرُ الوُجُوْبِ, وهي منقبة يعجز الناس عنها, ولو قطعوا دونها أكباد الإبل.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَاضَتْ عَائِشَةُ: "إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ", وَقَوْلُهُ لَمَّا حَاضَتْ صَفِيَّة: "عَقْرَى حَلْقَى عَقْرَى حَلْقَى إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا"؛ وَفرق عَظِيْم بين الْمَقَامَيْن, وما ذلك إلاّ لحبه عائشة رضي الله عنها.
ويشهدُ لهذا الحبّ ذلك الحوار اللطيف الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينها رضي الله عنها. قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً, وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى". قَالَتْ: فَقُلْتُ وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً؛ فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ, وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ[". قَالَتْ: قُلْتُ أَجَلْ, وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ.
ومُرَادهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَتْرُك التَّسْمِيَة اللَّفْظِيَّة وَلَا يَتْرُك قَلْبهَا التَّعَلُّق بِذَاتِهِ الْكَرِيمَة مَوَدَّة وَمَحَبَّة. وَفِي اِخْتِيَار عَائِشَة ذِكْر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام دُون غَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء دَلَالَة عَلَى مَزِيد فِطْنَتهَا, لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى النَّاس بِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآن, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا بُدّ مِنْ هَجْر الِاسْم الشَّرِيف أَبْدَلَتْهُ بِمَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ حَتَّى لاَ تَخْرُج عَنْ دَائِرَة التَّعَلُّق فِي الْجُمْلَة.
السادسة: اخْتِيَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَرَّضَ فِيْ بَيْتِهَا, وموتُه بَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا رضي الله عنها, وَدَفْنُهُ فِيْ بَيْتهَا بِبُقْعَةٍ هِيَ أَفْضَل بِقَاعِ الْأَرْض بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ, وبيانُ ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا نزل به المرضُ واشتدَّ استأذن أزواجه فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بيتها؛ فأَذِنَّ له؛ فبقي عندها ترعاه وتخدمه, وتسهر عليه في مرضه إلى أن قبضه الله إليه.
وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟" اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِها, وفي هذا تقول السيدة عائشة: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي وَفِي نَوْبَتِي, وَبَيْن سَحْرِي وَنَحْرِي, وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ. قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِسِوَاكٍ؛ فَضَعُفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ ثُمَّ سَنَنْتُهُ بِهِ, فحصلَ لها اجْتِمَاعُ رِيْقِ رَسُوْلِ اللهِ وَرِيْقِهَا فِيْ آَخِرِ أَنْفَاسِه.
وَفِي هذا البيان – أيضاً - فَضِيلَةٌ لعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا, وَرُجْحَانهَا عَلَى جَمِيع أَزْوَاجه الْمَوْجُودَات ذَلِكَ الْوَقْت, وَكُنَّ تِسْعًا إِحْدَاهُنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا, وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْعُلَمَاء, وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوا فِي عَائِشَة وَخَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا.
السابعة: أَنَّ جِبْرِيْلَ عليه السلام يُقْرِئُها السَّلام, ودلَّ على هذه المنقبة العظيمة قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَائِشَ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ"؛ فقَالت: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ, تَرَى مَا لَا أَرَى. تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[68], وتأمّل كيف خاطبها بترخيم اسمها, وأخبرها خبرًا تطير له القلوب والأفئدة.
الثَّامنةُ: لَمْ يَنْزِلِ الْوَحْيُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِيْ لِحَافِ امْرَأَة مِّن نِّسَائِهِ غَيْرَهَا, وبَيان ذلك أنَّ النَّاسُ كانوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ. قَالَتْ: عَائِشَةُ فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ؛ فَقُلْنَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ, وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ, وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ, فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ. قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَتْ: فَأَعْرَضَ عَنِّي؛ فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَاكَ, فَأَعْرَضَ عَنِّي؛ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ؛ فَقَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ, فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا".
وفي الحديث منقبة ظاهرة لعائشة, ومفهوم الحديث أنّ أمّ المؤمنين السيدة عائشة هي الوحيدة من زوجات النبي التي كان ينزل الوحي عليه وهو نائم بجانبها في الفراش, والسبب ظاهر جليّ, وهو طهارتها وعفتها وعلوّ منزلتها, وفي هذا تأكيد لمكانتها السامية, ويؤيِّدُ هذا ما قاله الذهبي: "وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها".
التاسعة: أنّ فَضْلَها عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ, لقولِهِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ, وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ, وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ, وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ", وَالْمُرَاد بِالْفَضِيلَةِ نَفْعُهُ, وَالشِّبَع مِنْهُ, وَسُهُولَة مَسَاغه, وَالِالْتِذَاذ بِهِ, وَتَيَسُّر تَنَاوُله, وَتَمَكُّن الْإِنْسَان مِنْ أَخْذ كِفَايَته مِنْهُ بِسُرْعَةٍ, وَغَيْر ذَلِكَ, وَكُلّ هَذِهِ الْخِصَال لَا تَسْتَلْزِم ثُبُوت الْأَفْضَلِيَّة لَهُ مِنْ كُلّ جِهَة؛ فَقَدْ يَكُون مَفْضُولاً بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ مِنْ جِهَات أُخْرَى.
وَالمَعنى أنَّ فَضْل عَائِشَة عَلَى النِّسَاء زَائِد كَزِيَادَةِ فَضْل الثَّرِيد عَلَى غَيْره مِنْ الْأَطْعِمَة, لأنّها أُعطيت حُسْن الخُلُق والخَلْق, وحلاوة النطق, وفصاحة اللهجة, وجودة القريحة, ورزانة الرأي, ورصانة العقل, ولكنّها بالجملة دون مريم وآسيا وخديجة وفاطمة, ولو أنّها فاقتهنّ ببعض الصفات, والله أعلم.
العاشرة: زَوْجَةُ نَبيّنا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا فِي خِرْقَةِ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ", "وَلَمَّا بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارًا وَالْحَسَنَ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَسْتَنْفِرَهُمْ خَطَبَ عَمَّارٌ فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاكُمْ لِتَتَّبِعُوهُ أَوْ إِيَّاهَا".
وهذا يقتضي أن تكون معه في الجنّة, وأي فضل وأي مكانة أسمى من أن يكون المرء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة, وليس هناك منزلة أعلى منها وأجل, وفي هذا فضيلة ظاهرة لها رضي الله عنها.
الحادية عشرة: دعاؤُه صلى الله عليه وسلم لَهَا, يَقولُ صلى الله عليه وسلم: "اللهم اِغْفِرْ لعائشة مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا ومَا تَأخْرَ ومَا أسَرَّتْ ومَا أعْلَنَتْ"، فَضَحِكَتْ عائشة حتى سَقَطَ رأسها في حِجْرِهَا من الضَّحِكِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيَسُرُّكِ دُعَائِي؟", فقالت: وَمَا لِيِ لاَ يَسُرُّنِي دُعَاؤكَ؟ فقال: "والله إنَّهَا لَدَعْوَتِي لأمَّتِي في كُلِّ صَلاةٍ", ولأنّها فضيلة جليلة كان فرح عائشة بها عظيماً, ودلّ ذلك سقوط رأسها في حجرها من شدة الضحك, فهي أمنيِةُ كل مؤمن ومؤمنة أنْ يدعوَ الرسول صلى الله عليه وسلم له.
الثانية عشرة: كَمَال عَقْلهَا وَصِحَّة رَأْيهَا مَعَ صِغَر سِنّهَا.
ظهرت عبقريتها منذ نعومة أظفارها في كلّ ما يصدرُ عنها من أعمال وأقوال وحركات، تنبؤُ عن مستقبل باهر ودور عظيم, ومن ذلك ما رواه أبو داوود عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِى سَهْوَتِهَا[84] سِتْرٌ؛ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ؛ فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِى, وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ؛ فَقَالَ: "مَا هَذَا الَّذِى أَرَى وَسْطَهُنَّ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: "وَمَا هَذَا الَّذِى عَلَيْهِ". قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: "فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟. قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلاً لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ, ويظهر لك من خلال هذه المشاهد أنّك أمام شخصية حاذقة ماهرة.
ومن العجب أنْ تحوز عائشة كلَّ هذه الفضائل والمناقب قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, أي قبل أن تبلغ ثمانية عشرة سنة, ومعنى هذا أنّنا نتحدث عن امرأة صغيرة في عمرها كبيرة في شخصيتها, ثمّ هي تحتلُّ كلّ هذه المساحة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, تقول رضي الله عنها: "كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي"؛ وتأمّلها وهي تلعب مع البنات الصغيرات في بيت أشرف الخلق, ومع هذه الطفولة تتميّز بكل تلك المميّزات.
وحين تقرأ نقاشها مع رسول الله ومع والديها, حول قضية الإفك يغيب عنك أنّ المُتحدثة إنّما هي فتاة بنت اثنتي عشرة سنة, وتوفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ما زالت في مقتبل العمر, ودلّ على حداثة سنّها قولُها: "مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي, وَفِي دَوْلَتِي, لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا؛ فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النِّسَاءِ وَأَضْرِبُ وَجْهِي".
وحين خيّر الرسول صلى الله عليه وسلّم نساءه, قَالَ لعائشة: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ", قالت عائشةُ: "خشي حداثة سني", ولكنّها اختارته صلى الله عليه وسلّم دون مشاورة, وَفِي هذا مَنْقَبَة عَظِيمَة لِعَائِشَةَ وَبَيَان كَمَال عَقْلهَا وَصِحَّة رَأْيهَا مَعَ صِغَر سِنّهَا, ويؤيّد هذا المعنى قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين تخاصمت زينب وعائشة - فقال:"إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ", وهذه إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى كمال فهمها وحسن نظرها.
وحداثة سنّها رضي الله عنها يُفسر لنا كثيراً من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم معها, لأنّ الحكمة تقتضي أنْ يُراعى السنّ في المعاملات بين النّاس, و"العاقل إذا خلا بزوجاته وإيمائه ترك العقل في زاوية, وداعب ومزاح وهازل ليعطي النفس والزوجة حقهما، وإن خرج لأطفاله خرج في صورة طفل", ولنا في معاملة رسول الله لعائشة أُسوة حسنة؛ فقد روت رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ. قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ؛ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي, فَقَالَ: "هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ", وهذا يدل على كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وحسن عشرته لأهله.