رؤيته تنقلك إلى عالم متكامل من البؤس والشقاء مفرداته: صغار لا عائل لهم وعجزة لاقيم على شؤونهم، وأشباح بشرية تكابد العيش، وتغالب هموم الحياة.
على ناصية شارع فرعي بأحد الأحياء الشعبية كان يأخذ مكانه مع انبلاج الفجر كل يوم يتكفف المارة ويستجدي الخيرين، أقعده الضعف عن الذهاب إلى أبواب المساجد ومركز المدينة، وحبسه الهرم والكبر في محيط حيه الشعبي وداخل منطقة سكنه ،وهو ما حرمه مزايا التسول في مناطق أكثر رواجا لكن لم يفقده تعاطف الجيران ورثاءهم لسوء أحواله وضياع شيخوخته.
كانت عدته في سفريته اليومية إلى الناصية جراب صغير من قماش، وعكاز خشبي للتوكأ، في منظر يوحي بالتأهب للسفر والاستعداد للرحيل، فصاحبه تخفف إلا من فضفاضة خلقة عقد طرفاها الأعلى من فوق الرقبة، والأسفل عند الركبتين،فضلا عن احتبائه بقميص بال، لم يكن يقوى حتى على النهوض،أو يستطيع الحركة،فيبقى متكوما في مكانه، يسارق المارة النظر، ويبث المتصدقين نظرات الاستجداء ،ممتنا لليد التي تمتد إليه بالإحسان،والعين التي تكف عن التطلع إليه.
الصدقات التي في حوزته أغلبها عيني(رزم صغيرة من السكر أو الأرز بينما تناثرت عملات معدنية على رداء مبسوط ، ومن هنا جاء دور الجراب الصغير لاستقبال هذه النوع من الصدقات.
كان لدى كثيرين مجرد عجوز هده الفقر وأثقله الإملاق فاختار طريق التسول كعديدين من أترابه،لكن ما فات هؤلاء أن معاناته ليست سوى صورة مصغرة لمعاناة أشمل، يكتوي بنارها يوميا أفراد أسرة فقيرة ،ليس هذا العجوز المتسول سوى عائلها وقيمها الوحيد،فلنعش يوما واحدا مع هذه الأسرة ونستطلع أوضاعها المعيشية في هذه الزاوية الخاصة.
خريف العمر
كان منظره يستدر الشفقة ويقطع نياط القلب،عجوزتحاماه الهرم والعوز،وأناخ عليه بؤس الأيام بكلكله،وفأرزته الليالي صفو العيش ومتعة الحياة،جرب قساوة الدهر ومرارة الحرمان منذ أمد، كما ألف الفقر والفاقة لدرجة التماهي والحلول،علمته الحياة أن صوت الحاجة والغريزة قد يكون أقوى من صوت العقل والضمير ،وأن ناجز الأيام وحاضر العيش أفضل من غيبه وناسئه، فأخذ منها بقدر ما أعطت ،ودارى فواجع الأقدار بقدر ما أوتي، فكنت تراه متقشفا من غير زاهدة ومقبلا على الدنيا من غير تهتك أو تحلل.
لم يكن من النادر أن يأنس في نفسه وحشة فيجهر بالتهليل والتسبيح لا سيما في ساعات الفجر الأولى وأوقات تراجع الحركة والمرور،لكن من غير الكثير أن يدفعه السأم والوحدة إلى إخراج جراب تبغه الصغير ثم يختلس لنفسه نفسا أو اثنين على عجل ،ثم سرعان ما يدس العدة في جيبه.
كثيرون لم يدروا شيئا عن تحكم تلك العادة في نفسه رغم الضعف والهرم،لكن بعض الجيران أقروه على ممارستها،فربما كان الدافع استحكام العادة أو خرف الشيخوخة.
وذات مرة سمعت أحدهم يخاطبه: صحتك لم تعد تحتمل ! هلا تركت التبغ ؟ فرد عليه دون اكتراث :حاولت الاقلاع مرات فلم أوفق.
كان يقضي سحابة نهاره جالسا صوب الشارع ناثر متاعه الخفيف ومطرقا يتفحص الرائحين والغادين، ربما مل الجلوس فاستند إلى عكازه كأنما يهم بالوقوف ..أو أتكأ إلى جنبه، كما قد تلجأه شمس الظهيرة إلى ظل إحدى الأشجار القريبة،لكن لم يكن أبدا ليرجع إلى منزله قبل حلول الظلام، ربما هربا من الوحدة وابتعاد عن طلبات العيال،أو حرصا على حصيلة أوفر من الصدقات في منطقة بائسة وفي محيط يغلفه الفقر والحرمان، كل ما يمكن تأكيده أن هذا المسكين إلى ضعفه وعجزه كان يفتقد دفء الأسرة وحنان العائلة وعطف الأقربين،فساعات الليل التي يمضيها في البيت كان في أغلبها إما نائما أو واجما مكتئبا..
كان قبل أن يضعف سمعه يمضي الساعات صائخا إلى المذياع أو مقلبا طرفه في صفيح السقف المهترأ كأنما يناجي النجوم عبر ثقوب السقف وفتحاته المتواثبة ويبثها بعضا من همومه وشكواه، حين عز الصاحب وانعدم الأنيس.
أما هذه الأيام فإن البيت يرتبط في ذهنه بالفراغ والضياع، ولم تعد ساعات اليقظة فيه سوى أوقات كدرة متثاقلة،كما لم يعد يغريه النظر عبر فتحات السقف أو تجاويف الباب –والتي بالمناسبة مصدر الإضاءة الوحيد في عتمة المنزل –بعدما ضعف بصره وخارت قواه.
لم يعد يأبه لمشاعر الأسرة نحوه، لإدراكه أن قيمة إنسان اليوم بقدر ما يملك،لا بما يستحق من رحمة وشفقة،لذا كان في عودته يتحامل على نفسه جاهدا حتى إذا تجاوز عتبة المنزل ألقى إلى العيال بما معه من نقود ومؤن ثم رمى نفسه كالمتاع في إحدى زوايا البيت.
تقشف الفقر
زهده في مشاعر أسرته لا يماثله سوى زهده في الطعام والشراب، ربما رغبة عن الموجود منهما،أو فقدا للشهية بسبب العجز والكبر أو إيثارا لأفراد الأسرة رغم الحاجة والخصاصة أو أي مبرر آخر غير انعدام الحاجة إلى الطعام أو الاقتصاد في المعيشة.
مرة سأله أحد المارة وكان الوقت زوالا :لم لا تذهب للغداء ثم تعود؟،فأجاب بصوت ضعيف متقطع : لم تعد لي شهية إلى الأرز المسلوق أو الممزوج ببعض حبات الفاصوليا،الجوع أفضل، فقال له الرجل مستفهما:والعيال..؟فقال الشيخ بشيء من السخرية المرة:.. العيال العيال إذا لم يجدوا غير التراب لأكلوها، ثم استدرك قائلا: لكن أحيانا يكون في فضل طعام الجيران مندوحة عن طعام المنزل والجوع ..أما نحن فليلطف بنا الله!
ثم علمت منه إن غلاء المعيشة وضيق ذات اليد دفع الأسرة للتخلي عن وجبة العشاء وتوفير ثمنها الزهيد لشراء دقيق الخبز الجاف كوجبة للإفطار،كما فهمت منه أيضا أن دخله الهزيل من التسول،لا يكفي لسد حاجات الأسرة الغذائية،أما المصروفات الأخرى كالماء والغاز والنقل ...الخ فتلبيتها حسب المتاح لا الحاجة، وتدبيرها لأفراد هذه الأسرة المعدمة حلم قد يتحقق في قابل الأيام ، أوقد تأتي تصاريف الزمن ومبرمات القضاء بحلول أخرى لم تخطر على بال.
نهاية المطاف
تركت العجوز المسن وفي نفسي أكثر من سؤال حائر ترى هل سيتمكن يوما ما من رؤية أسرته في وضع أفضل؟ وما مشاعره عن ذاته وأماله ومطامحه؟
وما الصورة التي يختزنها الأبناء لهذا المسن المعدم؟ وهل نحن في حاجة إلى دور خاصة للمسنين والعجزة؟ وأين دور الجهات المسؤولة في التخفيف من بؤس هؤلاء وستر ضعفهم وحاجتهم –على الأقل حتى لا يرحلوا وهم يلعنون الجيل الذي ربووا والبلد الذي دفنوا في ثراه آمالهم وتطلعاتهم إلى حياة أفضل؟
إن وضعية الأسرة السابقة ليست سوى نموذجا حيا لواقع العديد من الأسر الفقيرة التي قد يعيلها رب المنزل العجوز المتسول أو ربته المعدمة العاطلة،أو تلك التي لا عائل لها أصلا وما أكثرها!!
لكن ما يميز الأسرة السابقة أنها صورة لمعاناة مزدوجة فهي من ناحية تطرح معاناة الأسر الفقيرة مع الأسعار والغلاء،كما تكشف عن جوانب من واقع فئة عمرية ذات أحتياجات خاصة وهي شريحة المسنين،والذين يشكلون نسبة لابأس بها من بين المتسولين،والعجزة ،مما يستدعي تعبأة الجهود واتخاذ المبادرات للعمل على صون كرامتهم وحقن ماء وجهوهم، ومراجعة السياسات الإنمائية،وأهداف المشاريع الاجتماعية كي تنطلق من الاحتياجات الفعلية لهؤلاء، وتستند على معلومات وافية بشأنهم،قصد تحسين أوضاعهم،وحتى لا يظلوا حبيسي العجز ورهيني السلبية والانطواء.